سورة الحج - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


ولما كان كأنه قد قيل: كيف تكون المدافعة وبمن؟ فقيل: بعباده المؤمنين، عبر عن ذلك بقوله: {أذن} وأشار بقراءة من بناه للمجهول إلى سهولة ذلك عليه سبخانه {للذين يقاتلون} أي للذين فيهم قوة المدافعة، في المدافعة بالقتلا بعد أن كانوا يمنعون منه بمكة ويؤمرون بالصفح؛ ثم ذكر سبب الإذن فقال {بأنهم ظلموا} أي وقع ظلم الظالمين لهم بالإخراج من الديار، والأذى بغير حق.
ولما كان التقدير: فأن الله أراد إظهار دينه بهم، عطف عليه قوله: {وإن الله} أي الذي هو الملك الأعلى، وكل شيء في قبضته، ويجوز عطفه على قوله: {إن الله يدفع} أي بإذنه لهم في القتال وأنه {على نصرهم} وأبلغ في التأكيد لا ستبعاد النصرة إذ ذاك بالكفار من الكثرة والقوة، وللمؤمنين من الضعف والقلة، فقال: {لقدير} ثم وصفهم بما يبين مظلوميتهم على وجه يجمعهم ويوثقهم بالله فقال: {الذين أخرجوا من ديارهم} إلى الشعب والحبشة والمدينة {بغير حق} أوجب ذلك {إلا أن يقولوا} أي غير قولهم، أو ألا قولهم: {ربنا الله} المحيط بصفات الكمال، الموجب لإقرارهم في ديارهم، وحبهم ومدحهم واقتفاء آثارهم، فهو من باب:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
وفي سوق ذلك المساق الاستثناء عند من يجعله منقطعاً إشارة إلى أن من أخلص لله، صوب الناس إليه سهام مكرهم، ولم يدعوا في أذاه شيئاً من جهدهم.
ولما ذكر مدافعته، وذكر أنها بالمؤمنين، بين سرها عموماً ليفهم منها هذا الخاص، وصورها تقريباً لفهمها، فقال عاطفاً على ما تقديره: فلولا إذن الله لهم لاستمر الشرك ظاهراً، والباطل- باستيلاء الجهلة على مواطن الحج- قاهراً: {ولولا دفع الله} أي المحيط بكل شيء علماً وقدرة في كل شريعة، وفي زمن كل نبي أرسله {الناس} أي عموماً {بعضهم ببعض} أي بتسليط بعضهم على بعض {لهدمت صوامع} وهي معابد صغار مرتفعة للرهبان {وبيع} للنصارى {وصلوات} أي كنائس اليهود {ومساجد} أي للمسلمين، أخرها لتكون بعيدة من الهدم قريبة من الذكر {يذكر فيها اسم الله} أي الملك الذي لا ملك غيره، ولعل العدول عن الإضمار إلى الإظهار للإشارة إلى اختلاف ذكره تعالى في الأماكن المذكورة بالإخلاص وغيره {كثيراً} لأن كل فرقة تريد هدم ما للأخرى، بل ربما أراد بعض أهل ملة إخراب بعض معابد أهل ملته، لا فبدفعه الله بمن يريد من عباده، وإذا تأملت ذلك وجدت فيه من الأسرار، ما يدق عن الأفكار، فإنه تعالى لما أراد بأكثر الناس الفساد، نصب لهم من الأضداد، ما يخفف كثيراً من العناد.
ولما كان لتقدير: ولكن لم تهدم المذكورات، لأن الله دفع بعضهم ببعض، وجعل بعضهم في نحور بعض، عطف عليه أو على قوله: {أذن} قوله: {ولينصرن الله} أي الملك الأعظم، وأظهر ولم يضمر تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال: {من ينصره} كائناً كم كان منهم ومن غيرهم، بما يهيئ له من الأسباب، إجراءً له على الأمر المعتاد، وبغير أسباب خرقاً للعادة، كما وقع في كثير من الفتوحات، كخوض العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه البحر الملح إلى جواثاء بالبحرين، واقتحام سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الدجلة مع عظمها في ذلك العام وطموها، وزيادتها وعلوها، وزلزلة أسوار حمص بالتكبير وتهدّم كثيراً من بيوتها، عن إتقان بنيانها، وإحكام قواعدها وأركانها ونحو ذلك؛ ثم علل نصره وإن ضعف المنصور، بقوله: {إن الله} أي الذي لا كفوء له {لقوي} أي على ما يريد {عزيز} لا يقدر أحد على مغالبته، ومن كان ناصره فهو المنصور، وعدوه المقهور، ولقد صدق سبحانه فيما وعد به، فأذل بأنصار دينه رضي الله عنهم- جبابرة أهل الأرض وملوكهم، ومن أصدق من الله حديثاً.
ولما وصف نفسه سبحانه بما يقتضي تمكين منصوره الذي ينصره، وصفهم بما يبين أن قتالهم له، لا لهم، بعد أن وصفهم بأنهم أوذوا بالإخراج من الديار الذي يعادل القتل، فقال: {الذين} ولما كان وقت النصرة مبهماً آخره يوم الفصل، عبر بأداة الشك ليكون ذلك أدل على إخلاص المخلص في القتال: {إن مكناهم} بما لنا من العظمة {في الأرض} بإعلائهم على أضدادهم {أقاموا الصلاة} أي التي هي عماد الدين، الدالة على المراقبة والإعراض عن تحصيل الفاني {وآتوا الزكاة} المؤذنة بالزهذ في الحاصل منه، المؤذن بعمل النفس للرحيل {وأمروا بالمعروف} وهو ما عرفه الشرع وأجاره {ونهوا عن المنكر} المعرف بأنه لا أنس لهم إلا به سبحانه، ولا خوف لهم إلا منه، ولا رجاء فيه والآية دالة على صحة خلافة الأئمة الأربعة.
ولما كان هذا ابتداء الأمر بالجهاد، وكان عقب ما آذى أعداؤه أولياءه، فطال أذاهم لهم، فكان التقدير كما أرشد إليه العطف على غير مذكور، عطفاً على {ولولا دفع} فللّه بادئة الأمور، عطف عليه قوله: {ولله} أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء {عاقبة الأمور} فتمكينهم كائن لا محالة، لكن ذكره للعاقبة وطيه للبادئة منبه على أنه تعالى يجعل للشيطان- كما هو المشاهد في الأغلب- حظاً في البادئة، ليتبين الصادق من الكاذب، والمزلزل من الثابت، وأما العاقبة فهي متمحضة له إلى أن يكون آخر ذلك القيامة التي لا يكون لأحد فيها أمر، حتى أنه لا ينطق أحد إلا بإذن خاص. ولما كان في ترغيب هذه الآيات وترهيبها ما يعطف العاقل، ويقصف الجاهل، طوي حكم العاقل لفهمه ما سبق، وهو: فإن يؤمنوا بك مكناهم في الأرض، ودل عليه بعطف حكم الجاهل على غير مذكور في سياق يسلي به نبيه صلى الله عليه وسلم ويعزيه، ويؤنسه ويواسيه، فقال {وإن يكذبوك} أي أخذتهم وإن كانوا أمكن الناس، فقد فعلت بمن قبلهم ذلك، فلا يحزنك أمرهم {فقد كذبت} وأتى سبحانه بتاء التأنيث تحقيراً للمكذبين في قدرته وإن كانوا أشد الناس.
ولما كانت هذه الأمم لعظمهم وتمادي أزمانهم كأنهم قد استغرقوا الزمان كله، لم يأت بالجار فقال: {قبلهم قوم نوح} وكانوا أطول الناس أعماراً، وأشدهم اقتداراً؛ ولما لم يتعلق في هذا السياق غرض بالمخالفة في ترتيبهم، ساقهم على حسب ترتبيهم في الوجود فقال: {وعاد} أي ذوو الأبدان الشداد {وثمود} أولو الأبنية الطوال، في السهول والجبال {وقوم إبراهيم} المتجبرون المتكبرون {وقوم لوط} الأنجاس، بما لم يسبقهم إليه أحد من الناس {وأصحاب مدين} أرباب الأموال، المجموعة من خزائن الضلال.
ولما كان موسى عليه السلام قد أتى من الآيات المرئية ثم المسموعة بما لم يأت بمثله أحد ممن تقدمه، فكان تكذيبه في غاية من البعد، غير سبحانه الأسلوب تنبيهاً على ذلك، وعلى أن الذين أطبقوا على تكذيبه القبط، وأما قومه فما كذبه منهم إلا ناس يسير، فقال: {وكذب موسى} وفي ذلك أيضاً تعظيم للتأسية وتفخيم للتسلية {فأمليت للكافرين} أي فتعقب عن تكذيبهم أني أمهلتهم بتأخير عقوبتهم إلى الوقت الذي ضربته لهم، وعبر عن طول الإملاء بأداة التراخي لزيادة التأسية فقال: {ثم أخذتهم} ونبه سبحانه وتعالى على أنه كان في أخذهم عبر وعجائب، وأهوال وغرائب، بالاستفهام في قوله: {فكيف كان نكير} أي إنكاري لأفعالهم، فليحذر هؤلاء الذين أتيتهم بأعظم ما أتى به رسول قومه مثل ذلك.


ولما كانت هذه الأمم السبعة أكثر أهل الأرض، بل كانت أمة منهم أهل الأرض كما مضى بيانه في الأعراف، فكيف بمن عداهم ممن كان في أزمانهم وبعدهم، وأخبر سبحانه وتعالى أن عادته فيهم الإملاء ثم الإهلاك، تسبب عن ذلك تهويل الإخبارعنهم وتكثيرهم، فقال تعالى شارحاً للأخذ والإمهال على طريق النشر المشوش: {فكأين من قرية أهلكناها} كهؤلاء المذكورين وغيرهم، وفي قراءة الجماعة غير أبي عمرو بالنون إظهاراً للعظمة {وهي} أي والحال أنها {ظالمة فهي} أي فتسبب عن إهلاكها أنها {خاوية} أي متهدمة ساقطة أي جدرانها {على عروشها} أي سقوفها، بأن تقصفت الأخشاب ولا من كثرة الأمطار، وغير ذلك من الأسرار، فسقطت ثم سقطت عليها الجدران. أو المعنى: خالية، قد ذهبت أرواحها بذهاب سكانها على البقاء سقوفها، ليست محتاجة إلىغير السكان {و} كم من {بئر معطلة} من أهلها مع بقاء بنائها، وفوران مائها {وقصر مشيد} أي عال متقن مجصص لأنه لا يشيد- أي يجصص- إلا الذي يقصد رفعه، فحلت القصور من أربابها، وأقفرت موحشة من جميع أصاحبها، بعد كثرة التضام في نواديها، وعطلت الآبار من ورَّادها بعد الازدحام بين رائحها وغاديها، دانية ونائية، حاضرة وبادية؛ ولما كان خراب المشيد يوهى من أركانه، ويخلق من جدارنه، لم يحس التشديد في وصف القصر، كما حسن في وصف البئر.
ولما كان هذا واعظاً لمن له استبصار، وعاطفاً له إلى العزيز الغفار، تسبب عنه الإنكار عليهم في عدم الاعتبار، فعد أسفارهم- التي كانوا يرون فيها هذه القرى على الوجه الذي أخر به سبحانه لما كانت على ذلك الوجه- عدماً، فقال تعالى: {أفلم يسيروا في الأرض} أي وهم بصراء ينظرون بأعينهم ما يمرون عليه، من الآيات المرئية من القرى الظالمة المهلكة وغيرها، وقرينة الحث على السير دل على البصر.
ولما كان الجواب منصوباً، علم أنه منفي لأنه مسبب عن همزة الإنكار التي معناها النفي، وقد دخلت على النفي السير فنفته، فأثبتت السير عرياً عما أفاده الجواب، وهو قوله: {فتكون} أي فيتسبب عن سيرهم أن تكون {لهم قلوب} واعية {يعقلون بها} ما رأوه بأبصارهم في الآيات المرئيات من الدلالة على وحدانية الله تعالى وقدرته على الإحياء والإماتة متى أراد فيعتبروا به، فانتفاء القلوب الموصوفة متوقف على نفي السير الذي هو إثبات السير، وكذا الكلام في الآذان من قوله: {أو} أي أو تكون لهم إن كانوا عمي الأبصار كما دل عليه جعل هذا قسيماً {آذان يسمعون بها} الآيات المسموعة المترجمة عن تلك القرى وغيرها سواء ساروا أو لم يسيروا، إن كانت بصائرهم غير نافذة الفهم بمجرد الرؤية فيتدبروها بقلوبهم، فإنه لا يضرهم فقد الأبصار عند وجود البصائر.
ولما كان الضار للإنسان إنما هو عمى البصائر دون الأبصار، نفى العمى أصلاً عن الأبصار لعدم ضرورة مع إنارة البصائر، وخصه بالبصئر لوجود الضرر به ولو وجدت الأبصار، مسبباً عما مضى مع ما أرشد إليه من التقدير، فقال: {فإنها لا تعمى الأبصار} أي لعدم الضرر بعماها المستنير البصيرة {ولكن تعمى القلوب} وأكد المعنى بقوله: {التي في الصدور} لوجود الضرر بعماها المبطل لمنفعة صاحبها وإن كان البصر موجداً، فاحتيج في تصوير عماها إلى زيادة تعيين لما تعورف من أن العمى إنما هو للبصر، إعلاماً بأن القلوب ما ذكرت غلطاً، بل عمداً، تنبيهاً على أن عمى البصر عدم بالنسبة لى عماها، والمراد بالقلب لطيفة ربانية روحانية مودعة في اللحم الصنوبري المودع في الجانب الأيسر من الصدر، لديه تعلق... عقول الأكثر في أنه يضاهي تعلق العرض بالجسم، أو الصفة بالموصوف، أو المتمكن بمكان وهذه اللطيفة على حقيقة الإنسان سميت قلباً للمجاورة والتعلق، وهي كالفارس والبدن كله كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس، بل لا نسبة لأحد الضررين بالآخرة، فلذلك نفى عمى الأبصار أصلاً ورأساً، فلا شيء ضرره بالنسبة إلى عمى البصائر.
ولما قدم سبحانه أن الضال المضل له خزي في الدنيا، وقدم أنه يدفع عن الذين آمنوا وينصرهم، وساق الدليل الشهودي على ذلك لمن كان جامد الفهم، مقيداً بالوهم، بالقرى الظالمة التي أنجز هلاكها، وختم بإنكار عماهم عن ظاهر الآيات البينات، قال عاطفاً على {ومن الناس من يجادل} معجباً منهم وموضحاً لعماهم: {ويستعجلونك} ويجوز وهو أحسن أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل {يسيروا} فيكون مما أنكر عليهم {بالعذاب} الذي تتوعدهم به تكذيباً واستهزاء، {و} الحال أنه {لن يخلف الله} الذي لا كفوء له {وعده} فلا بد من وقوعه لكن الطويل عندهم من الزمن قصير عنده، وقد ينجز الوعد وقد يؤخره بعد الوعيد إلى حين يوم أو أقل أو أكثر، لأن قضاءه سبق أنه لا يكون إلا فيه لحكم يظهرها لمن يشاء من عباده {وإن يوماً} أي واحداً {عند ربك} أي المحسن إليك بتأخير العذاب عنهم إكراماً لك {كألف سنة} ولما كان المقصود هنا التطويل، فعبر بالسنة تنبيهاً عليه؛ ولما كانت السنون قد تختلف قال: {مما تعدون} لأن أيامكم تناسب أوهامكم، وأزمانكم تناسب شأنكم، وهو حليم لا يستطيل الزمان، وقادر لا يخاف الفوت.


ولما دل على نصر أوليائه، وقسر أعدائه، بشهادة تلك القرى، وختم بالتعجيب من استعجالهم مع ما شاهدوا من إهلاك أمثالهم، وأعلمهم ما هو عليه من الأناة، واتساع العظمة، وكبر المقدار، عطف على {فكأين} محذراً من نكاله، بعد طويل إمهاله، قوله: {وكأين من قرية} أي من أهلها {أمليت لها} أي أمهلتها كما أمهلتكم {وهي ظالمة} كظلمكم بالاستعجال وغيره {ثم أخذتها} أي بالعذاب {وإليّ المصير} بانقطاع كل حكم دون حكمي، كما كان مني البدء، فلم يقدر أحد أن يمنع من خلق ما أردت خلقه، ولا أن يخلق ما لم أرد خلقه، فلا تغتروا بالإمهال، وإن تمادت الأيام والليالي، واحذروا عواقب الوبال، وإن بلغتم ما أردتم من الآمال، ولعله إنما طوى ذكر البدء، لأنه احتجب فيه بالأسباب فغلب فيه اسمه الباطن، ولذلك ضل في هذه الدار أكثر الخلق وقوفاً مع الأسباب.
ولما كان الاستعجال بالأفعال لا يطلب من الرسول، وكان الإخبار باستهزائهم وشدة عماهم ربما أفهم الإذن في الإعراض عنهم أصلاً ورأساً قال سبحانه وتعالى مزيلاً لذلك منبهاً على أن مثله إنما يطلب من المرسل، لا من الرسول: {قل} أي لهم، ولا يصدنك عن دعائهم ما أخبرناك به من عماهم {يا أيها الناس} أي جميعاً من قومي وغيرهم {إنما أنا لكم نذير} أي وبشير، وإنما طواه لأن المقام للتخويف، ويلزم منه الأمن للمنتهى فتأتي البشارة، ولأن النذارة هي المقصود الأعظم من الدعوة، لأنه لا يقدم عليها إلا المؤيدون بروح من الله {مبين} أي لكل ما ينفعكم لتلزموه. ويضركم فتتركوه لا إله، أعجل لكم العذاب؛ ثم تسبب عن كونه مبيناً العلم بأن وصف البشارة مراد وإن طوي، فدل عليه سبحانه بقوله تفضيلاً لأهل البشارة والنذارة: {فالذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان {وعملوا} أي تصديقاً لدعواهم ذلك {الصالحات لهم مغفرة} لما فرط منهم من التقصير لأنه لن يقد أحد أن يقدر الله حق قدره.
ولما كان هذا أول الإذن في القتال، الموجب لمنابذة الكفار، ومهاجرة الأهل والأموال والديار، وكان ذلك- مع كونه في غاية الشدة- موجباً للفقر عادة، قال محققاً له ومنبهاً على أنه سبب الرزق: {ورزق} أي في الدنيا بالغنائم وغيرها، والآخرة بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {كريم} لا خسة فيه ولا دناءة بانقطاع ولا غيره أصلاً ما داموا على الاتصاف بذلك، هذا فعل ربهم بهم عكس ما وصف به مدعو الكفار من أن ضره أقرب من نفعه.
ولما كان في سياق الإنذار، قال معبراً بالماضي زيادة في التخويف: {والذين سعوا} أي أوقعوا السعي ولو مرة واحدة بشبهة من الشبه ونحوها {في آياتنا} أي التي نصبناها للدلالة علينا مرئية أو مسموعة {معاجزين} أي مبالغين في فعل ما يلزم- في زعمهم- منه عجزنا، ومعجزين، أي مقدرين أنهم يعجزوننا بإخفائهم آياتنا، وإضلال الناس وصدهم عهنا بألقاء الشبه والجدال، اتباعاً للشيطان المريد، من غير علم ولا هدى ولا كتب منير كشبه الاتحادية الذين راج أمرهم على كثير من الناس مع أنه لا شيء أوهى من شبههم ولا أظهر بطلاناً، ولذلك راج أمرها على أهل الغباوة، فإن الداعية منهم يقول لمن يغره: هذا الظاهر من الكلام لا يقول به عاقل، فالمراد به أسرار دقيقة، وراء طور العقل، لا يوصل إليه إلا بالرياضة والكشف، وما درى المغرور أن أبا طالب كان أعقل من هذا الذي ينسب إليه ذلك الكفر الظاهر، فإن شعره أحسن من شعره، وبديهته أعظم من بديهته، ورؤيته أحكم من رؤيته، وقد رأى من الآيات من النبي صلى الله عليه وسلم ما لا مزيد عليه، مع أن له من القرابة ما هو معروف، ومن المحبة ما يفوت الحصر، ومع ذلك فقد أصرّ من الضلال ما لا يرضاه حمار لو نطق، على أن هذا المغرور قد لزمه- بتحسين الظن بهؤلاء الكفرة- إساءة الظن بأشرف الخلق: النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «من رأى منكم منكراً» الحديث الذي في بعض رواياته: «وليس وراء ذلك أي الإنكار بالقلب- مثقال حبة من إيمان» وقد أفردت لبيان ضلالهم كتباً لما استطار من شرهم، ومس من ضرهم، منها المطول والمختصر، لا مزيد على بيانها وظهور سلطانها {أولئك} البعداء البغضاء {أصحاب الجحيم} أي استحقاقاً بما سعوا، فإن شاء تاب عليهم، وإن شاء كبهم فيها، ليعلموا أنهم هم العاجزون، هذا في الآخرة، وسيظهر سبحانه في الدنيا أيضاً عجزهم، بكشف شبههم ومج القلوب النيرة لها، مع ذلهم وانكسارهم، وهوانهم وصغارهم، حتى لا يقدروا أن ينطقوا من ذلك ببنت شفة، علماً منهم أن مثلها لا يقوله عاقل.
ولما لاح من ذلك أن الشيطان ألقى للكفار شبهاً، يعاجزون بها بجدالهم في دين الله الذي أمر رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بإظهاره، وتقرير وإشهاره، عطف عليه تسلية له صلى الله عليه وسلم قوله: {وما أرسلنا} أي بعظمتنا {من قبلك} ثم أكد الاستغراق بقوله: {من رسول} أي من ملك أو بشر بشريعة جديدة يدعو إليها {ولا نبي} سواء كان رسولاً أو لا، مقرر بالحفظ لشريعة سابقة- كذا قال البيضاوي وغيره في الرسول وهو منقوص بأنبياء بني أسرائيل الذين بين موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، فإن الله تعالى سماهم رسلاً في غير آية منها {ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل} [البقرة: 87] فالصواب أن يقال: النبي إنسان أوحي إليه بشرع جديد أو مقرر، فإن أمر بالتبليغ فرسول أيضاً، والتقييد بشرع لإخراج مريم وغيرها من الأولياء {إلا إذا تمنى} أي تلا على الناس ما أمره الله به أو حدثهم به واشتهى في نفسه أن يقبلوه حرصاً منه على إيمانهم شفقة عليهم {ألقى الشيطان في أمنيته} أي ما تلاه أو حدث به واشتهى أن يقبل، من الشبه والتخيلات ما يتلقفه منه أولياءه فيجادلون به أهل الطاعة ليضلوهم {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم} [الأنعام: 121] {وكذلك جعلنا لكل نبي عدواً شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً} [الأنعام: 112] كما يفعل هؤلاء فيما يغيرون به في وجه الشريعة أصولاً وفروعاً من قولهم: إن القرآن شعر وسحر وكهانة، وقولهم {لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] وقولهم {هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18] وقولهم: إن ما قلته الله بالموت حتف أنفه أولى بالأكل مما ذبح، وقولهم: نحن أهل الله وسكان حرمه، لا نخرج من الحرم فنقف في الحج بالمعشر الحرام ويقف الناس بعرفة، ونحن نطوف قي ثيابنا وكذا من ولدناه، وأما غيرنا فلا يطوف إلا عرياناً ذكراً ان أو أنثى إلا أن يعطيه أحد منا ما يلبسه، ونحو ذلك مما يريدون أن يطفئوا به نور الله، وكذا تأويلات الباطنية والاتحادية وأنظارهم التي ألحدوا فيها، يضل بها من يشاء الله ثم يمحوها من أراد من عباده وما أراد من أمره {فينسخ} أي فيتسبب عن إلقائه أنه ينسخ {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً {ما يلقي الشيطان} فيبطله بإيضاح أمره ومج القلوب له.
ولما كان إبطاله سبحانه للشبه إبطالاً محكماً، لا يتطرق إليه لعلو رتبة بيانه- شبهة أصلاً، عبر بأداة التراخي فقال: {ثم يحكم الله} أي الملك الذي لا كفوء له {آياته} أي يجعلها جلية فيما أريد منها، وأدل دليل على أن هذا هو المراد مع الافتتاح بالمعاجزة في الآيات- الختام بقوله عطفاً على ما تقديره: فالله على ما يشاء قدير: {والله} أي الذي له الأمر كله {عليم} أي بنفي الشبه {حكيم} بإيراد الكلام على وجه لا تؤثر فيه عند من له أدنى بصيرة، وكذا ما مضى في السورة ويأتي من ذكر الجدال.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6